نادر جداً
كان يوما عاديا ككل يوم من أيام حياتي و كعادتي كنت مرهقا بسبب العمل المستمر الذي لا ينتهي ، فأنا طبيب أبلغ من العمر 67 عاما ، خادم شباب غير ناجح بسبب الفجوة العمرية بيني وبين الشباب والتي تقترب من نصف قرن من الزمان أحمل قلبا ضعيفا يعاني من ضيق في الشرايين التاجية المغذية له بسبب أطنان من الكوليسترول التي تسد هذه الشرايين.
قررت أن أقضي ليلتي في الاتصال بالمخدومين ( أولادي في الخدمة ) للاطمئنان عليهم في فترة الامتحانات.
آلو ، أزيك يا مينا ، أخبار المذاكرة إيه ؟ ربنا معاك يا حبيبي ، باي باي.
آلو ، إزيك يا مرقس ، أخبار المذاكرة إيه ؟ ربنا معاك يا حبيبي ، باي باي.
آلو ، أزيك يا بيتر ، أخبار المذاكرة إيه ؟ ربنا معاك يا حبيبي ، باي باي .
و هكذا إلي أن وصلت لابني في الخدمة ، نادر ، ونادر هو شخص نادر جدا ، نادر جدا أن يأتي للاجتماع ، لدرجة تبلغ الاستحالة ، نادر جدا أن تجده في البيت في أي مرة تذهب لافتقاده ( و أنا أذهب إليه كثيرا لأن المسافة قصيرة بين بيتي وبيته ) ، نادر جدا أن تتصل به و تجده مستيقظا ، بل دائما أبدا نائما في سابع نومة ، هذا هو نادر.
و قد أصابني اليأس منه فعلا ، كثيرا ما نصحني أب اعترافي بعدم اليأس وتكرار المحاولة معه ، فالله لم ييأس منه بعد.
كنت فاقد الأمل تماما في أن أرى نادر ولو لمرة واحدة في الكنيسة ، حتى في حوش الكنيسة ، حتى بجانب كانتين الكنيسة حتى في أي شارع يبعد عن الكنيسة مسافة 100 متر.
قررت أن أؤجل المكالمة بعض الوقت لئلا أصاب بالإحباط التقليدي الذي أصاب به بعد مكالمة نادر ، و لكن صوتا بداخلي ألح علي لكي أطلبه.
أنا : آلو ، ممكن أكلم نادر.
شخص ما : أنا نادر
أنا في سري : ( مستحيل ) أهلا يا نادر ، أزيك يا حبيبي ، أنا أستاذ..... من كنيسة مارجرجس هليوبوليس.
نادر : أزيك يا أستاذ..... ممكن تتصل بعد شوية .
أنا : أنت كنت مشغول يا نادر ؟
نادر : ( أيوه ، أنا مشغول أوي لأني بأنتحر ) و وضع سماعة الهاتف.
أنا : ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
رميت سماعة التليفون على الأرض ، وأخذت أجري من الشقة ، للشارع ، لعمارة بيت نادر ، كنت أجري كما لم أجر من قبل ، تقطعت أنفاسي ، شعرت بوهن في كل عضلات جسمي ،العرق يتصبب على جبيني ، شعرت بقلبي الضعيف يكاد يهلك وهو يتوسل لشراييني التاجية أن تعطيه قليلا من الدماء ، كنت أجري بروحي الملهوفه على ابني ، مخدومي ، ابن المسيح ، الخروف الضال ، الذي لن أسامح نفسي لو ضاع ، لن أسامح نفسي طول عمري ، لن أسامح نفسي أبدا.
لو استمر الحال هكذا ( الجري المتواصل ) سوف نفقد اثنين في يوم واحد ، مخدوم ينتحر وخادم يصاب بذبحة صدرية.
أخيرا وصلت لباب العمارة ، استدعيت البواب و كسرنا باب الشقة لأنه لن يفتح لي في مثل هذه الظروف.
كنت أتوقع أن أجد كارثة ، أن أرى حبل في السقف و جسد نادر يتدلي منه و لكن لحسن حظه أنه اختار أسوأ وسيلة للانتحار وهي قطع شرايين اليد.
كان نادر ملقى على الأرض و الدماء تسيل منه أنهارا و يده اليمني تمسك السكين ، حاولت بكل الطرق الممكنة أن أوقف النزيف عن طريق ربط منديل في موضع أعلى من الجرح ، وطلبت من البواب طلب الإسعاف رغم ثقتي إن عربة الإسعاف لن تأتي إلا بعد أن نتلقى التعزية و السلوان في موت نادر ، لم يتحمل قلبي الضعيف كل هذا التوتر و فقدت الوعي ......
عدت للوعي و أنا في المستشفى ، في البداية لم أتبين ملامح الوجه الذي ينظر إلي ، إنه نادر ، كان واقفا وفي عينيه كل علامات الامتنان ، كانت يده مربوطة بشاش نظيف. ( لقد وصلت عربة الإسعاف ونقلتني أنا و نادر للمستشفى )
بالطبع من يمر بموقف نادر ، يجب أن تتغير حياته ، يجب أن يرجع لحضن أبيه ، فقد شعر نادر بأن الله يهتم به ، وإنه أرسلني في تلك الدقائق لأنقذ حياته.
أما أنا فشعرت فعلا بأهمية كل خروف ضال عند ربي و إلهي ، فلولا الصوت الذي شعرت به بداخلي والذي جعلني لا أؤجل طلب نمرة نادر ، لكان نادر الآن في الجحيم.
يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب ( لو 15 : 7 )